الفن يعكس أسرار النفس الإنسانية، ويفضح مكنوناتها، ويكشف عن خباياها، وأصبح من المسلمات
أن الفن يجسد الشخصية الإنسانية بكل مقوماتها:المستور منها والظاهر، اللاشعوري والشعوري، المبهم والواضح، الماضي والحاضر. لذلك كان الفنانون وأعمالهم الفنية موضع دراسة علماء التحليل النفسي، حيث كشفوا من خلال هذا التحليل ابعادا جديدة، اضفت تفسيرات وإيضاحات عن طبيعة شخصية الفنان، وأظهرت بعض المعالم الرئيسة التي كانت سببا في الطابع المميز الذي اكتسبته أعماله. وسواء جاوز التحليل الصدق أم جانبه، فانه مدخل هام لفهم الفنون عامة والفنون التشكيلية بوجه خاص، باعتبارها أدوات حساسة تكشف النقاب عن ذاتية الفنان، بل وعن ذاتية عصر من العصور من خلال أثاره الفنية.
ومن أولى الدراسات التي ظهرت في هذا الصدد، تحليل (فرويد) لشخصية(ليوناردو دافينتشي) من خلال لوحته المشهورة(الموناليزا)، وغيرها من أعماله المميزة.وقد وجد إن هذه الابتسامة الفريدة التي سجلها ليوناردو على شفتي لموناليزا وعلى مدوناته، إنما لها رباط بنوع من اللذة الحسية التي أفصح عنها الفنان في حلم، مضمونه أن طائرا هفهف بريشه فوق شفتيه وأحس بنشوة، ما لبثت أن انعكست على شفاه كثير من شخوصه . وقد دلل فرويد على صدق حدسه بأن (برناردينو لويني) –وكان تلميذا مقربا لليوناردو، لم يستطع- مع ما امتاز به من مهارات فنية، أن يسجل أي نوع من تلك الابتسامات الساحرة التي سجلها ليوناردو. فأعمال لويني التي يكاد يخطئها المتفرج على إنها من إنتاج أستاذه، تخلو من هذا العامل المميز، الذي أعطى لأعمال ليوناردو طابعا فريدا، وروحا خاصة. وسواء صدقنا فرويد في مدخله، من عزوا هذا التميز لجنسية مثلية تسامت، أم لم نصدقه، فان العبقرية تكشف عن شي اكبر من أن يقاس بأية معايير عادية. ومع ذلك ففي مدخل فرويد أبعادا جديدة تثبت بحق أن كيان الإنسان، ونشأته، وتاريخه، واحتكاكه ببيئته، وتفاعله معها، وصلته بالوالدين أو بمن ينوب عنهما، إنما تمثل ركنا هاما مؤثرا، في إعطاء التعبير الفني كيانه، بل ولها دورها العميق في تشكيل الشخصية الفنية
للمشاهد العادي أهم ما يميز لوحة الموناليزا هو نظرة عينيها والابتسامة الغامضة التي قيل إن دا فينشي كان يستأجر مهرجا لكى يجعل الموناليزا تحافظ على تلك الابتسامة طوال الفترة التي يرسمها فيها. اختلف النقاد والمحللين بتفسير تلك البسمة، وتراوحت الآراء بسر البسمة بدرجات مختلفة ابتدأ من ابتسامة أم دا فينشي وانتهاءا بعقدة جنسية مكبوتة لديه
إلا أن ما يميز لوحة لموناليزا هي تقديم لتقنيات رسم مبتكرة جدا (ما تزال سائدة إلى الآن). فقبل لموناليزا كانت لوحات الشخصيات وقتها للجسم بشكل كامل وترسم مقدمة الصدر إما إسقاطا جانبيا لا يعطي عمقا واضحا للصورة (و هي الأغلب) وإما أماميا مباشرا للشخص وبنفس العيب. فكان دا فينشي أول من قدم الإسقاط المتوسط الذي يجمع بين الجانب والأمام في لوحات الأفراد. وبذلك قدم مبدأ الرسم المجسم. يمكن ملاحظة الشكل الهرمي الذي يعطي التجسيم في اللوحة حيث تقع اليدين على قاعدتي الهرم المتجاورتين بينما تشكل جوانب الأكتاف مع الرأس جانبين متقابلين للهرم. هذه التقنية كانت ثورية وقتها وهي التي أعطت دفعا يجبر المشاهد إلى التوجه إلى أعلى الهرم وهو الرأس. هذا الأسلوب تم تقليده فورا من قبل عظماء الرسامين الإيطاليين المعاصرين له مثل رافاييل