أدت سيــــطرة مظاهر الحياة الغربية، على المشهد الثقافي والاجتماعي في العالم العربي، والقطيعة شبه الكاملة مع التراث، من حيث هو محدّد للهوّية، ومعبّر عن أسلوب حياة الناس.. إلى دفع كـــــــثير من القيادات الفكرية، والرموز الثقافية، إلى التفكير الجــــــاد، بطرح (بدائل) إسلامية. كانت هناك دعوات لأسلمة النظام السياسي، والمعاملات المالية والاقتصادية.. والثقافة، فظهرت الكتابات، التي تؤصّل دور الإسلام في السياسة، وبرزت أيضاً .. الدعوة إلى إسلاميّة المعرفة، وكذلك أسلمة الأدب.. وهكذا في فترة لاحقة، اتخذت هذه الدعوات، شكل العمل المؤسّسي، فنشأت الأحزاب السياسية، والبنوك، والمؤسسات التعليمية، وقامت رابطة للأدب الإسلامي.. بالإضافة إلى مؤسسات إعــــــلامية، تَركّزَ نشاطها في البداية، على إنتاج وتوزيع دروس ومحاضرات، في الشــــــــريط المسموع (الكاســــــيت)، ومحاولات ضعيفة، لإنتاج أعمال (درامية) على الفيديو
إشكالية المصطلح:
مثل غيره من الأنشطة الإنسانية، واجهت محاولات أسلمة العمل الإعلامي عقبة فنية، لها عــــــلاقة بتحديد الجانب التطبيقي للمصـــــــــــــطلح .. ونــــــطاق عمله. المشــــــــكلة التي واجــهت مصـــــطلح (الإعلام الإسلامي)، لم تقف عند تعريف ماهية النـــشاط وطبيعة الممارسة، بل تعدتها كذلك إلى وضع آلية لتطبيق المصطلح نفسه، ووضعه موضع التنفيذ .. بسبب تعقد النشاط الإعلامي، وتجاوزه مفهوم الممارسة الإعلامية البسيطة المتمثلة بمحاضر يتحدث من خلال شريط كاسيت.
مفهوم الإعـــلام النقي
أحدث الانفجار الإعلامي.. الفضائي منه على وجه الخصوص، رد فعل سلبي، لدى شريحة اجتماعية كبيرة. في غضون فترة قصيرة، امتلأ الفضاء العربي بالعشرات من قنوات الأفلام والموسيقى، التي لا تخضع لأي معيار أخلاقي، بل تعتمد فقط على الإثارة ودغدغة الغرائز. البث الفضائي المنفلت من أي ضابط أخلاقي سبب صدمة للتيار المحافظ العريض، في الشارع العربي.
الشـــكوى من ( غـــــــــربة ) الإعــــــــــلام العربي عن المجتمعات العربية، وانتهاجه منحى (تغريبياً)، بعيداً عن ثقافة المجتمعات العربية، وهوية الأمة.. لم تعد مقتصرة على (الإسلاميين). المشاهد العربي، المحافظ بطبيعته، شعر كذلك، بخطورة ما تبثه تلك الفضائيات، على النسق الأخلاقي للمجتمع، وبآثاره المدمرة على الشباب من الجـــــنسين، وتهديده لتماسك الأسرة.
الواقع (الملوث) للفضائيات العربية، والإعلام العربي بشكل عام.. من وجهة نظر الشريحة المحــــــــــــافظة، واشتمال مضامينه، و (الرسائل الإعلامية) التي يبثها على الكثير من التجاوزات غير الأخلاقية، رفـــــع درجة الاستياء .. وزاد من وتـــــــــــيرة الــــدعوة لإعـــلام (نظيف) وَبنّاء ، أو ما صــــــار يُطـــــلق عليه، لدى بعـــض (الســـوسيولوجيين)، والإعلاميين.. بـــــ (الإعــــــــلام النقي) .
الإعــــــــــلام النقي ، كــــــــــما يسميه الداعون إليه .. لــــيس معنياً بالأســـــلمة، بمفهومها (المؤدلج)، وهو ما يدافع عنه المهتمون به، والداعون إليه.. ضد دعوى من يتصدى لأسلمة الإعلام، ويشكّكون بنوايا الداعين للأسلمة، بدعوى الحزبية والأدلجة. ينطلق مفهوم الإعلام النقي من مبدأ أن الفضائيات العربية، بوضعها الحالي تمارس تأثيراً سيئاً، واعتداءً منظماً، على منظومة الأخلاق العربية الإسلامية، وتسهم في تسطيح اهتمامات الإنسان العربي، وإعاقة نمّوه الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، إضافةً إلى تغييبه عن واقعه. إن الاحتجاج على ما تبثه الفضائيات العربية، والتحذير من خــــطرها على الدين والهوية .. كما يرى الداعون إلى إعلام عربي نقي، أمر مشروع، وله ما يسوّغه من واقع تلك الفضائيات
المعـــــيار الأخـــــلاقي
يحكم العمل الإعلامي، من منظور إسلامي، معايير أخلاقية صارمة. القاعدة العامة التي تحكم أي نشاط بشري، على أساس من هذا المنظور هي:
الممارسة ليست غاية بحد ذاتها، بل بما تحققه من (فضيلة). كما أن الممارسة نفسها.. إذا كانت صحيحة، تُعدّ نوعاً من العمل الصالح ، الذي ينال المسلم بسببه، الأجر من الله.
الفـــضيلة هنا، معنى عام .. لكل ما دعت إليه الشريعة، وما تراه حسناً، من قول أو فعل. وهي كذلك .. أي الفضيلة، هَدَف وغَايةَ العمل الإعلامي الإسلامي، لكن هذه الغاية، لا تُحقّق بأي وسيلة. هذه الرؤية للعمل الإعلامي خضعت لنقاشات طــــويلة، وتبلورت عن معيار أخلاقي، يحدد طبيعة عمل الوسيلة الإعلامية، وشكل الممارسة الإعلامية. تمحور مفهوم المعيار الأخلاقي .. بشكل رئيس حول مسألتين لهما علاقة بالوسيلة الإعلامية.. من حيث هي (قناة) ، ومن حيث. هاتان المسألتان هما: المرأة والفن
الدين والمنظومة الأخلاقية
انعزل الإسلام في الفضائيات العربية، في برنامج (ديني) أسبوعي أو يومي، لشيخ يجلس أمام الكاميرا، يتحدث ساعة من الزمن، في شؤون لا علاقة للناس بها. إلى جانب البرنامج الديني، تمتلئ ساعات البث الأخرى، التي قد تمتد إلى أكـــــثر من (20) ساعة، بكل ما هو غير ديني، وأحياناً (غير إسلامي). إبتداء من الأفلام الأجنبية المترجمة، أو المدبلجة، وانتهاء بأغاني (الفيديو كليب). تمتلىء هذه الأفلام بكثير مما يناقض الإسلام فكرياً وأخلاقياً.. وأحياناً يسخر من بعض قيمه وتعاليمه. بل إن بعض هذه الأفلام .. خاصةً الأفلام المترجمة والمدبلجة تعبر عن موقف ضدّي، لمباديء الإسلام حين تروج لأسلوب حياة يصادم الأخلاق العربية الإسلامية في أساسها، مثل العرض (المحايد) للمشاهد المخلة، والعلاقات المحرمة، والخيانة الزوجية، ونكاح المحارم. أغاني الفيديو كليب التي أصبح لها قنوات عربية، مستقلة بذاتها، ليست إلا عرضاً رخيصاً ومباشراً لأجساد النساء، ولمشاهد جنسية فاضحة .. وتهييجاً فجاً وساقطاً، لغرائز الشباب.
إضعاف الوازع الديني، وانتهاك المحرمات، الذي أصبح سمة لازمة، لغالب البث الفضائي العربي .. احياناً بذرائع سياسية، باسم تجفيف منابع التطرف- أوجد حالاً من فقدان الهوية، وأفرز وضعاً أخلاقياً هشاً، تفشت في ظله الجريمة الأخلاقية. لقد تشكلت، بفعل هذه الفـــضائيات (ثـــــقافة) موازية .. غيـــــر جوهرية، على خصام مع جوهر الثقافة الأصلية. لم يعد معظم الشباب العربي، على وجه الخصوص، يعبر في سلوكه.. عن ثقافة عربية شرقية .. محافظة، فضلاً عن أن تـــــكون إســـلامية. كما أن (القيم) الغربية التي اكتسبها، من تعرضه للفضائيات العربية، لم تجعله يتحلى بصفات الشخصية الغربية (الجادة)، التي حققت إنجازات، على الصعيد الفكري والتقني. التحلل الأخلاقي للمجتمعات الغربية وآثاره على النظام الأسري، والنسق الاجتماعي.. إضافة إلى تفشي الأمراض، الناتجة عن العلاقات الجنسية المحرمة، أصبح أكثر مظاهر الحضارة الغربية حضوراً، في المجتمعات العربية.
المهتمون بالإعلام الإسلامي، بعد مطالعات عميقة، لتأثير وسائل الإعلام على الجمهور .. مما ورد في الدراسات الكثيرة والمكثفة، التي أجريت في المجتمعات الغربية نفسها .. أدركوا الدور المدمّر لوسائل الإعلام، بما تبثه من رسائل إعلامية، على المتلقي العربي، خصوصاً ثوابته وقيمه الدينية. لم يعد قــولاً جــــــــزافاً، الحــــــديث عن
وجود غربة حقيقية عن تعاليم الدين في أوساط الشعوب العربية.. ساهمت الفضائيات العربية، بشكل كبير فيها. بل إن هذا الواقع أفضى إلى نشوء تيارات شبابية متطرفة نزعت إلى العنف للتصدي لما تعتقد أنه عملية تدمير مقصودة لمنظومة الأمة الأخلاقية، وتهديد لوجودها. هذه الحقيقة هي ما دفع بعض الجهات والأفراد، لتبني عمل إعلامي إسلامي مؤسساتي، يأخذ على عاتقة المحافظة على هوية الأمة، ويصون أبرز مقومات وجودها .. وذلك بحماية دينها ومنظومتها الأخلاقية، من هجمة (ثقافة) الفضائيات العربية.
خاثمة
تمثل تجربة القنوات الإسلامية، عملاً جديداً ومختلفاً، بكل المقاييس. جدّة التجربة واختـــــلافها ليس في مهنية العمل، أو في استخدام تقنية جديدة .. خاصة بها، غير موجودة عند غيرها من القنوات. التفرد كان في (الثورة) النوعية، التي أحدثتها القنوات الإسلامية، في مجال البث الفضائي. في وقت لم تلتزم القنوات الفضائية الأخرى، بأي ضابط يحكم طبيعة البث ونــــوعه، إلا ما كان له عـــلاقـــــة بالتنظيمات (القانونية) في البلد الذي تعمل فــيه .. وضعت القنوات الإسلامية معايير صارمة .. أخلاقياً ومهنياً، تحكم سياستها في البث. الحـــــــرية غير المــــــلتزمة بقيـــود من أي نوع أعطى الفضائيات غير الإسلامية هامشاً كبيراً جداً للعمل. في المقابل .. المعايير والضوابط الأخلاقية للقنوات الإسلامية ضيقت هامش العمل لديها، وحــــــدّت من استخدامها لكل ما هو (متاح)، في مجال العمل التلفزيوني .. مما يمكن أن (يجذب) المشاهدين، بمختلف شرائحهم، كما هو حال الفضائيات الأخرى
إذا كانت أبرز الملامح النوعية لتجربة القنوات الإسلامية قدرتُها على تقديم مضمون جاد، واستقطاب جمهور يهتم به .. في ظل أنماط متعددة لسلوك إعلامي استهلاكي، يعتمد على الإثارة .. بمختلف أشكالها، فإنه يجب الإقرار أن تجربة القنوات الإسلامية، لا تخلو من قصور مهني... حداثة التجربة، ونقص الكوادر المدربة، من أهم الأســـــباب، وغياب الرؤية أحياناً .. سبب آخـــر مهم. لا يمكن الادّعاء كذلك أن كل (الأهداف) التي تقول القنوات الفضائية الإسلامية إنها وضعتها، جزءاً من سياستها، بوصفها إعلاماً إسلامياً .. قد تحققت. استخدام العامية في تلـــــــك القـــــــــنوات، ما زال موجوداً، وإن كــــــــان بنسبة أقــــــل من غيرها من القنوات. بعض القنوات الإسلامية كذلك لم تستطع أن تتخلص من الطابع المحلّي للبلد الذي تبث منه، خصوصاً الاهتمام بالأحداث والفعاليات القُطْريّة، على حساب قضايا الأمة والأحـــداث العالمية. كما تسود هيمنة الطابع الشخصي .. لمالكيها، أو القائمين عليها، فتؤثر على السمة العامة لبرامجها، وعلى مستواها المهني.